كانت نشوتي لا توصف بنقل كفالتي من عامل في شركة أسكون للبناء، إلى موظف في قسم المواصلات العامة ببلدية دبي، ومكمن الفرحة في النقلة النوعية التي حققتها في ذلك الوقت، علاوة على كيفية الموافقة على نقل الكفالة التي جاءت في أخر يوم من صلاحية إذن الدخول الجديد (الفيزا).. التي خرجت على بلدية دبي ( مدة الفيزا 30 يوما تبطل صلاحيتها بعد ذلك .. وكان للمسؤولين في شؤون الموظفين ببلدية دبي الحق في إلقاء مسؤولية نقل الكفالة على عاتقي دون تدخل منهم).
منتصف الثمانينات.. منطقة نايف وبالقرب من شارع السبخة كان المقهى المصري الوحيد في دبي .. مقهى أم محمد.. ملتقى المصريين عامة من مختلف مدن الإمارات.. وإحقاقا للحق كان المقهى ملتقى الأسوانية على وجه التحديد.. فقد كان مسكن المرحوم احمد عبدالله غير بعيد.. وكذلك الشقة التي استأجرها أهالي أسوان في بناية قريبة من المقهى لتكون حاضنة القادمين من إمارات بعيدة.. خصوصا أيام العطلة الأسبوعية والمناسبات..
من بين "المقيمين" في الشقة وبالتالي كان حاضرا يوميا على المقهى.. واحد من أهل بلدتنا (مدرس اللغة العربية في وزارة التربية والتعليم بالإمارات.. محمد أبو كرار).. كانت له علاقاته الكثيرة والمتشعبة.. إحداها شخصية إماراتية مرموقة لها وضعها الخاص .. تكفلت بإنهاء إجراءات نقل كفالتي في آخر يوم من صلاحية الفيزا.. لحظتها دارت بي الأرض .. عدت إلى الكامب ولا أعرف كيف عدت.. غريق نفخت بأنفاسك في رئتيه ليعود إلى سيرته.. مركب ضل طريقه وسط العواصف مستنجدا بفنار لم يتوقع ظهوره في ذروة غرغرة الغريق.. نعم.. هي أحداث ولحظات تقدر أهميتها بزمنها وملابساتها في حينها.. ليظل مقهى أم محمد عالقا في مخيلتي حتى الآن.. أزور المكان الذي تغير وانتصبت على ذكرياته بناية زجاجية حديثة.. حتى أم محمد .. لم تعد موجودة.. والمقهى المصري الوحيد في دبي.. شاخ.. لتظهر من بعده مئات المقاهي الحديثة .. غير أن مقهى واحدا ممن يبيع حجر الشيشة بسبعين درهما الآن.. لا يصل إلى قيمة مقهى أم محمد التاريخية والشخصيات التي جلست عليه في وقت كان حجر الشيشة بدرهمين فقط..
بمناسبة مقهى أم محمد.. في فترة لاحقة (1988 تقريبا) .. اتصل بي أحد الأصدقاء وكان يعمل متعهد كومبارس للمسلسلات التي كانت تصور في استديوهات دبي للأعمال الفنية.. اسمه علاء الدين.. قال: بحكم أنك تعرف مقهى أم محمد ولديك سيارة.. ما رأيك أن تأتي إلى الاستديو وتلتقط الصور مع الممثلين .. ونتناول العشاء .. معي أحد الممثلين يريد أن يدخن الشيشة.. هي المرة الأولى التي أدخل فيها استديوهات التصوير في تلفزيون دبي.. لا أذكر اسم المسلسل.. لكنني أذكر الأبطال.. صفية العمري، صلاح قابيل، حنان سليمان، وممثل كان يظهر في أدوار ثانوية.. أشرف زكي.. وآخرون لا أتذكرهم.. لم التقط صورا مع أحد.. لم أتناول العشاء.. بل بقيت مصدوما بالغزل الفاضح والميوعة المبتذلة بين صفية العمري وصلاح قابيل أمام الجميع.. (بالمناسبة .. لا تستهويني حكاية التقاط الصور مع المشاهير أو غير المشاهير.. اللهم من صور كان يلتقطها المصورون المرافقون لي في حوارات صحافية مع شخصيات.. الصورة الوحيدة التي سعيت لالتقاطها كانت مع الفنان الراحل نور الشريف أثناء جولة في المنطقة التراثية بالشارقة رفقة الإعلامي محمد حمودة حين كان مذيعا في تلفزيون الشارقة وقتها..).
ركب الممثل إلى جواري.. علاء في المقعد الخلفي.. وصلنا مقهى أم محمد.. جلسنا.. أنا أدخن من علبة سجائري.. علاء شيشة.. الاستاذ الممثل شيشة.. شاي .. باغتني بالسؤال: طوال الطريق لم تذكر اسمي.. وتناديني بالاستاذ!!.. قلت: لم يسبق لي معرفتك .. والمسؤولية تقع على صديقنا علاء الذي لم يعرفنا على بعضنا.. قال: ألا تشاهد المسلسلات؟ .. أشاهد بعضها يا أفندم.. ما الخطب؟.. كيف لا تعرفني؟.. وهل يجب علي معرفة كل من يظهر في مشهد أو مشهدين يا أستاذ؟... تدخل صديقنا علاء.. بس خلاص يا عز ..هذا الممثل القدير الأستاذ أشرف زكي .. تشرفنا.. أجبت..
(5)
مر الأسبوع الأول من عملي في المواصلات العامة ببلدية دبي تحت التمرين.. بدءا من كيفية استلام دفاتر التذاكر بتسلسل أرقامها الصحيح، والتأكد يوميا من رقم آخر تذكرة في الدفتر المستعمل الذي يتم بموجبه إغلاق حساب يوم وبداية يوم جديد.. ومرورا بالتمرين على توزيع التذاكر وتحصيل قيمتها على الخطوط الأقل ازدحاما مثل خط الجافلية رقم (9) .. أو خط الجميرا رقم (8) ..
ما أذكر .. أنني خرجت للتدرب مع الحاج علي عبد الله (رجل فلاح بسيط طيب بالكاد يكتب ويقرأ).. كنا نناديه (الشنتوري) وكان يضحك.. كان يعمل على خط العوير رقم (11) .. وكانت له طريقته الخاصة في التعبير عن حصر وحساب (غلة) اليوم من تحصيل التذاكر .. بالمناسبة كانت هناك خطوط تخدم المناطق الشعبية التي يقطنها أهل الإمارات .. مثل العوير والخوانيج خط رقم (15) .. والراشدية خط رقم (4).. والقصيص خط رقم (3) والجافلية وبالطبع جميرا وأخيرا حتا.. بيوت شعبية على يمين مدخل بابها الرئيسي أو الجانبي (حسب التصميم) .. يوجد مجلس كبير لاستقبال الضيوف.. ملحق به مرحاض.. كثيرون من أصحاب هذه البيوت كانوا يؤجرون هذه المجالس للعائلات العربية ذات الدخل البسيط.. الحاج علي كان من بين هؤلاء .. مقيما في منطقة القصيص.
هنا يتوجب علي أن آخذ شهيقا عميقا قبل أن أنوه إلى أن فترة عملي في بلدية دبي التي بدأت نهاية عام 1984 .. وانتهت عام 1999.. هي فترة البناء وتحمل مسؤولية القرارات الخاطئة أو الصائبة التي اتخذتها (وما أكثرها).. وهي أيضا فترة التعامل مع كل شرائح المجتمع أثناء العمل في المواصلات العامة صباحا.. ثم حضور الندوات مساء ومجالسة أساتذتي وأصدقائي على الساحة الثقافية آنذاك نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وما بعد ذلك.. وهي أيضا فترة انفتاح صعيدي (مجبول على العيب والحياء) على معطيات جديدة عصية على المقاومة والترويض.. وعصية أيضا على الفهم.. نعم .. اعترف أنني حتى ذلك العمر لم تكن لدي جرأة النظر إلى وجه إمرأة تحدثني.. لكن من يعمل سائق تاكسي.. أو كادرا في المواصلات العامة لأي مدينة .. فهو عرضة .. بل مجبر لكي ينكشف على خبايا المدينة .. والتعامل مع المستجدات.. بما في ذلك النظر إلى وجوه الغريبات.. نعم.. هي مرحلة تحديات جديدة.. كنت فيها شابا.. بالكاد يتحسس نهد أنثى.. وأيضا اكتشاف (ألاعيبها) مبكرا.. وما أكثر المتحرشات (المتبجحات من وجهة نظري آنذاك) .. وما بين هذا وذاك يطول الحديث عن رائحة الزيوت الهندية المنسكبة على رؤوس الخارجين من مساكن العمال بعد ظهر يوم الجمعة مستقلين حافلة خط رقم (13) إلى محطة السبخة.. حتى الآن لا أعرف معنى تجمع العمال يوم العطلة الأسبوعية في منطقة السبخة ومحيطها في دبي.. ومنطقة الرولة ومحيطها في الشارقة..
(6)
الساعة الثامنة وخمسة وأربعون دقيقة هو موعد انطلاق أخر رحلة على جميع خطوط المواصلات العامة في الاتجاهين بين المحطتين الرئيستين (السبخة في منطقة ديرة، والغبيبة في منطقة بر دبي) وبين ضواحي وشعبيات دبي، على أن تبدأ الحافلات في الدخول إلى الكراج الساعة التاسعة والربع، العاشرة مساء يكون القائم بعمل المحاسب قد انتهى من تسلم الإيرادات، وتكون حافلة إعادة الموظفين إلى بيوتهم جاهزة أيضا للإنطلاق.. منتصف الثمانينات.. عندما تقترب عقارب الساعة من التاسعة والنصف تبدأ المحلات التجارية في غلق أبوابها.. لتستسلم شوارع المدينة وارصفتها إلى حالة سكون رتيبة.. في وقت كان فيلم السهرة يبدأ عند الساعة العاشرة والنصف مساء.. قبل أن ينتهي الارسال عند الساعة الواحدة صباحا على أكثر تقدير.. (كانت برامج التلفزيون تبدأ الساعة العاشرة صباحا ومن ضمنها برنامج الطهي وكنت حريصا على متابعته).
كثيرون كانت لديهم سياراتهم الخاصة التي تكفيهم ملل انتظار حافلة الموظفين التي تجوب المناطق حسب سكن الركاب ودورهم في خط السير.. محظوظ من يسكن جوار زميل لديه سيارة أو حتى على نفس طريقه.. كان منزل الحاج علي عبد الله في طريق عودتي إلى غرفتي في مساكن بلدية دبي بمنطقة (القصيص - سونابور).. عندما يكون متأخرا ويلحق بي في المكتب يستحلفني أن انتظره عند باب الكراج لكي يعود معي.. ينزل غير بعيد من منزله .. كمن خجل في إحدى المرات .. أقسم أن اتناول الشاي معه في منزله.. (هذا ابني أحمد صف سادس.. وهذه ابنتي أمل .. ثالث إعدادي.. وهذا محمد .. صف ثالث.. وهذه أختك .. أم أحمد).. فضفض ذات مرة أن تحصيل الأولاد الدراسي غير جيد.. وليست لديه القدرة على دفع حصص الدروس الخصوصية.. وأنه لا يجيد متابعة دراسة أولاده .. كمن يمثلون عليه بفتح الكتب أمامه فقط..
قلت: لن يخرج للتنزه أيام العطلة الأسبوعية إلا لمن ينجح في نيل درجات ممتازة في التحصيل الدراسي على مدار الأسبوع.. صعب على طفل أن يجلس بمفرده أو مع والدته أو والده في البيت .. بينما بقية الأسرة تقضي وقتا ممتعا على الشاطئ أو في الحدائق العامة أو غيرهما.. كنت أمينا مع رجل فلاح أصيل في غاية الطيبة.. كما كانت أم أحمد كذلك.. الإثنان من غير حملة الشهادات.. لكنهما يعرفان الأصول .. لذا تحسنت درجات الأولاد وتحصيلهم الدراسي.. فقط .. هي عملية ترغيب وترهيب..
مع مرور الأيام توطدت علاقتي بهذه الأسرة الطيبة.. كانت أم أحمد تستشيرني في كل كبيرة وصغيرة سواء كان ذلك في حضور الحاج، أو في غيابه.. لكنها أيضا كانت سيدة حصيفة لا تخبئ شيئا عن زوجها.. تزن الأمور وتحسب حساب كل شيء.. وكانت عند حسن ثقة زوجها في قراراتها.
في هذه الفترة .. تعرفت بسيدات مصريات من جيرة أم أحمد.. متزوجات.. كل واحدة منهن تذكرني بسميحة (إلهام شاهين) في فيلم أيام الغضب .. ليس شرطا أن تكون حالة سميحة الحرفية منطبقة على جميع من (قابلتهن .. أو من "صادقتهن" .. أو من سمعت منهن الحكايات.. وما أكثرهن.. ربما في كتابات لاحقة أسرد معاناة بعضهن).. غير أن حالة بنت السويس الجميلة و"المضطربة نفسيا"، كانت نموذجا صارخا لما آلت إليه سميحة.. مع الفارق.. أن بنت السويس تركت بيتها في الغربة دون رجعة (لا أجد فائدة من ذكر الملابسات).
---------------------
بقلم: عز الدين الأسواني